تأثيرات حرب السودان على ليبيا ومصر- دعم حفتر وموقف القاهرة

المؤلف: الصادق الرزيقي11.11.2025
تأثيرات حرب السودان على ليبيا ومصر- دعم حفتر وموقف القاهرة

في الحلقتين السابقتين، استعرضنا مواقف دول الجوار السوداني، والتي تشمل إثيوبيا وإريتريا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وتشاد، بالإضافة إلى تحليل علاقة هذه الدول بالصراع الدائر وتأثيراته على الأمن الإقليمي. كما تطرقنا إلى علاقة الحكومات والأنظمة في هذه الدول بالجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة، وكذلك العوامل والظروف التي أدت إلى هذه المواقف المعلنة والخفية.

اليوم، نستكمل جولتنا في محيط السودان، بعد أن استكشفنا الجوار الشرقي والجنوبي والغربي، لنتفحص تأثيرات هذه الحرب على كل من ليبيا ومصر، وهما تمثلان الجوار الشمالي والشمالي الغربي للسودان.

ليبيا

قبل اندلاع الأزمة، كانت ليبيا على تماس مباشر مع التطورات المتسارعة في السودان، سواء عبر الحكومة الليبية المتمركزة في العاصمة طرابلس، أو من خلال القوات الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي، والمدعومة من قِبل بعض الدول العربية.

حكومة طرابلس، في ظل الظروف الراهنة وغياب سيطرتها الكاملة على المناطق الحدودية مع السودان، لم تُظهر سوى موقفًا رسميًا يتماشى مع قرارات جامعة الدول العربية ومخرجات قمة دول جوار السودان التي عُقدت في القاهرة في شهر يونيو 2023. ومع ذلك، خلال زيارة البرهان إلى طرابلس في 26 فبراير الماضي، والتي أعقبتها زيارة لحميدتي بعد ثلاثة أيام، تم طرح ما يمكن وصفه بمبادرة غير معلنة وشاملة للحل السياسي في السودان.

أما اللواء خليفة حفتر ومجموعته، فقد تورطوا منذ البداية في دعم التّمرد في السودان، بل كانوا على علم مسبق بالموعد المحدد لانطلاق انقلاب قوات الدعم السريع على السلطة. ففي الأسبوع الثاني من أبريل 2023، أي قبل بداية الحرب، أرسل حفتر ابنه "صدّيق" ومدير مكتبه اللواء خيري التميمي إلى الخرطوم للاجتماع والتنسيق مع حميدتي. مكث نجل حفتر أيامًا في الخرطوم كضيف لدى قائد قوات الدعم السريع، وغادر السودان قبل اندلاع الحرب بيوم أو يومين، حيث تم خلال تلك الزيارة وضع الترتيبات والتدابير اللازمة للعلاقة بين الطرفين والاتفاق على ثمن هذا الدعم.

تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين قوات الدعم السريع وحفتر تعود إلى ما قبل سقوط الرئيس البشير، حيث التقى الرجلان أو مندوبون عنهما أكثر من مرة في اجتماعات تنسيقية عُقدت في دولة عربية راعية. وفي عام 2019، عقب الإطاحة بالبشير، بلغ التنسيق ذروته عندما ترددت أنباء عن قيام حميدتي بإرسال 1500 جندي للقتال إلى جانب قوات حفتر في معركة السيطرة على العاصمة طرابلس. حاولت قيادة قوات الدعم السريع نفي هذه الأخبار، في حين كانت الطائرات التي تنقل الجنود تنطلق من مطارَي نيالا والفاشر باتجاه ليبيا مباشرة أو عبر مطارات عربية.

العلاقة المتينة التي جمعت حفتر بقوات الدعم السريع وشركة فاغنر الروسية، ترتكز بشكل أساسي على ثلاثة محاور رئيسية:

  1. تسهيل عبور الإمدادات العسكرية، بما في ذلك سيارات الدفع الرباعي والأسلحة والذخائر، التي تصل إلى ميناءَي بنغازي وطبرق، إلى داخل السودان عبر مدينة الكفرة.
  2. التعاون في مجال تجنيد المرتزقة الأجانب الموجودين داخل ليبيا، وخاصة في المناطق الجنوبية والشرقية، وإدخالهم إلى السودان.
  3. تسهيل مرور المواد الغذائية والمواد البترولية عبر تنسيق مشترك، بالإضافة إلى توفير العلاج للجرحى من قوات الدعم السريع.

على هذه المحاور الثلاثة، قامت علاقة حفتر بقوات الدعم السريع. فقد فتحت بنغازي موانئها لاستقبال الدعم العسكري المقدم من بعض الدول العربية، والذي يشمل سيارات الدفع الرباعي المجهزة بالكامل وقطع الغيار، بالإضافة إلى الأسلحة والذخائر والمدافع المتوسطة.

يتولى "صدّام خليفة حفتر"، المشرف على جيش حفتر، مسؤولية استلام هذه المساعدات، ومن ثم تقوم الكتيبة (106) بنقلها إلى مدينة الكفرة، حيث تتسلمها كتيبة (سبل السلام)، وهي عناصر تابعة لجماعة المداخلة (المنسوبة إلى الشيخ ربيع المدخلي)، وتقوم بإيصالها إلى الحدود الليبية السودانية، حيث يتسلمها مندوب قوات الدعم السريع (الطيب حجازي يوسف). كما يقوم صدّام حفتر بالتنسيق مع كتيبة "سبل السلام" لاستضافة وتدريب عناصر قوات الدعم السريع المستجدين في معسكرات في الكفرة الليبية، وأكبرها معسكر ومزارع عبد الرحيم سلطان، القائد الثاني لجماعة "سبل السلام".

بالإضافة إلى ذلك، يقدم حفتر الدعم لقوات الدعم السريع في أنشطة تجنيد المرتزقة الأفارقة والقبليين المحليين في مناطق الجنوب الليبي. حيث قام صدام حفتر بالتنسيق مع الزعيم المحلي (حسين الشريف) لتجميع المرتزقة في مناطق (أم الأرانب) وعلى الحدود الليبية التشادية، ومنطقة المثلث الليبي السوداني التشادي جنوب غرب (السارا)، ومناطق سبها وجنوب الجفرة، وحتى في عمق الصحاري. كما يتم استقبال المجندين الجدد من طبرق وأجدابيا، حيث ينشط فريق قوات الدعم السريع بقيادة رمضان سالم أبوبكر. ويضاف إلى ذلك عمليات التجنيد التي تتم في مناطق التعدين الأهلي جنوب ليبيا وشمال تشاد والنيجر.

ظهرت تطورات جديدة عرقلت الجهود المصرية، من بينها الموقف التشادي الداعم للتمرد، والشكوك المتبادلة بين السودان وإثيوبيا، والتعقيدات المحيطة بملف سد النهضة.

تمتد خطوط الإمداد من طبرق وبنغازي إلى الكفرة ومنها إلى السودان في جميع المحاور الثلاثة. ومع ذلك، ينفي اللواء المتقاعد خليفة حفتر بشكل متكرر دعمه لقوات الدعم السريع، بل وحاول الاتصال برئيس مجلس السيادة وقائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان لتوضيح موقفه.

لكن المعلومات المتوفرة لدى الأجهزة السودانية وأطراف إقليمية ودولية تؤكد، بما لا يدع مجالًا للشك، دور حفتر في تسهيل مرور العتاد الحربي وتوفير الوقود والمواد الغذائية وتعيينات قوات الدعم السريع. حيث يقوم تجار متعاونون مع قوات الدعم السريع المتمردة في بنغازي بشحن الكميات المطلوبة شهريًا من الوقود والسكر والزيت والدقيق والأرز وغيرها من المواد الغذائية إلى السودان عبر الحدود التشادية، بعد تجميعها في معسكرات قوات سبل السلام الليبية.

وفي حين أن الحكومة الليبية في طرابلس تركز على متابعة المسار السياسي والحل عن طريق مبادرة دول جوار السودان، أو مبادرتها الخاصة، أو المبادرة المشتركة مع تركيا، فإن المناطق الشرقية والجنوبية من ليبيا، التي تقع خارج سيطرتها، تشهد تقديم اللواء خليفة حفتر، بدعم من بعض الدول العربية، دعمًا غير محدود لقوات الدعم السريع، رغم اعتراضات زعماء قبائل "الكفرة"، وعلى رأسهم قبيلتا "الزوي" و"المجابرة"، اللتين ترفضان هذا التورط في الأزمة السودانية، وهما قبيلتان تربطهما علاقات نسب ومصاهرة مع السودان.

مصر

منذ بداية الأزمة، أعلنت مصر عن موقفها الداعم للجيش السوداني في مواجهة قوات الدعم السريع المتمردة. وقد صرح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مرارًا وتكرارًا بأن بلاده تدعو إلى إبعاد أي ميليشيات عن المنطقة، كما أن العلاقة بين القاهرة وقوات الدعم السريع لم تكن جيدة على الإطلاق.

فخلال زيارة حميدتي الأولى إلى القاهرة في يوليو 2019، عقب ما سُمي بالمحاولة الانقلابية لرئيس الأركان السابق الفريق أول هاشم عبدالمطلب، ألمح حميدتي إلى اتهام مصر بالتورط في الانقلاب، وقال لمستقبليه من المصريين لدى وصوله إلى مطار القاهرة في يوليو 2019 إنه بصدد مناقشة موضوع الانقلاب في الخرطوم وعلاقته بمصر، وهو ما كاد أن ينسف علاقته بالقاهرة.

ظلت العلاقة متوترة بين قوات الدعم السريع والقاهرة، وبلغت ذروتها عندما أرسل حميدتي قواته إلى مطار مدينة مروي شمال السودان لإخراج القوات المصرية التي كانت تعمل في مجال التدريب، حيث قامت باختطاف أكثر من 20 ضابطًا وفردًا مصريًا، متهمًا مصر بشكل مباشر بالتورط في السودان. تم إطلاق سراح هؤلاء بعد اتصالات سياسية ودبلوماسية مع أطراف داخلية وخارجية بعد أسبوعين من اندلاع الحرب.

من الواضح أن مصر تدعم الاستقرار والسّلام في السودان، وقد تحملت الآثار المباشرة للحرب، فمنذ 15 أبريل 2023، استقبلت مصر ما يقرب من 450 ألف لاجئ سوداني فروا من الحرب، بالإضافة إلى نحو 4 ملايين من المقيمين أصلًا في مصر، وفقًا لتقارير المنظمة الدولية للهجرة.

استضافت مصر قمة دول جوار السودان في 13 يوليو 2023 بدعوة من الرئيس المصري، وشارك فيها جميع دول الجوار السوداني للبحث عن حل يوقف الحرب. فالسودان بالنسبة لمصر ليس مجرد عمق استراتيجي، بل هو حياة ومصير واحد، وتنظر القاهرة إلى التهديدات الأمنية والاستراتيجية الناتجة عن الحرب على أنها تهديد للأمن القومي المصري والمنطقة بأسرها.

من خلال استضافتها للاجئين السودانيين، سعت القاهرة للتواصل مع جميع الأطراف السودانية، من القوى السياسية التي تدعم الجيش، وقوى إعلان الحرية والتغيير التي تساند قوات الدعم السريع المتمردة. والهدف الرئيسي من تحركات القاهرة وجهودها هو الإمساك بالملف السوداني بجوانبه المختلفة، والاستماع إلى جميع وجهات النظر وبلورة رؤية متكاملة للحل.

دعمت مصر أيضًا منبر جدة التفاوضي والمبادرة الأميركية السعودية المشتركة، وتشاورت مع الوسيطين حول ملف التفاوض ووقف إطلاق النار، وتمرير المساعدات الإنسانية، وحول مبادرة دول جوار السودان، وقمة القاهرة، وتشكيل اللجنة التنفيذية الوزارية لتنسيق العمل في الإقليم.

إلا أن مستجدات ميدانية أعاقت المساعي المصرية، ومن بينها الانحياز التشادي للتمرد، والريبة المتبادلة بين السودان وإثيوبيا، وما يكتنف ملف سد النهضة من تعقيدات، إضافة إلى مواقف جمهورية أفريقيا الوسطى، وشرق ليبيا (حفتر)، ومن خلفه القوى العربية الداعمة للتمرد، فضلاً عن التدخل الإسرائيلي المباشر في الحرب السودانية.

نتيجة لهذه العوامل، تواصل مصر مراقبة الأوضاع عن كثب، وتجري اتصالات مع جميع الأطراف المعنية سعيًا لإيجاد تسوية للأزمة. وفي هذا السياق، تنخرط مصر في مسارات متعددة مع دول الإقليم والجوار، وتأخذ في الاعتبار مواقف الدول العربية الداعمة للتمرد.

خلال الفترة المنصرمة، احتضنت مصر العديد من الفعاليات الخاصة بالفصيل السياسي المساند للتمرد، أي قوى إعلان الحرية والتغيير (المجلس المركزي). كما استضافت فنادق القاهرة ورش عمل لمنظمات وجمعيات وتيارات سياسية، بعضها يؤيد ويناصر الدعم السريع، بل إن عناصر قيادية من الدعم السريع نفسه أتيحت لهم فرصة زيارة مصر ولقاء مسؤولين مصريين، لكن الموقف الرسمي المصري لم يتبدل.

كما قادت مصر مبادرة دول الجوار، وعقدت اللجنة الوزارية المكلفة اجتماعًا في نجامينا في يوليو 2023، وضم وزراء خارجية الدول المعنية، وتم رفع تقرير إلى قمة الرؤساء. ولا تزال المبادرة في مرحلة التنسيق مع المبادرات الأخرى، وربما يكون الهدف المصري هو التوفيق بين هذه المبادرات وتشكيل رؤية موحدة لحل الأزمة في السودان.

وفي السياق ذاته، زار القاهرة مؤخرًا رئيس مجلس السيادة السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان، عقب زيارة إلى ليبيا، تلاه رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، رئيس تنسيقية القوى الديمقراطية، لحضور اجتماعات التنظيمات السياسية المتحالفة مع التمرد، لكن حمدوك لم يلتق بأي مسؤولين رسميين في القاهرة.

تسعى مصر جاهدة إلى موازنة مواقفها من الصراع في السودان دون الإعلان صراحة عن دعمها للجيش، وذلك بهدف الحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة مع جميع الكتل السياسية وتحقيق التفاهم مع الأطراف الإقليمية والعربية ذات الصلة بما يجري في السودان.

بالإضافة إلى الحيطة والحذر اللذين يميزان السياسة الخارجية المصرية في الآونة الأخيرة، تسعى القاهرة إلى "اللعب على المضمون" وتفضل أن يكون دورها الحاسم غير مُعلن، مع قراءة متأنية لمآلات الأوضاع في السودان مستقبلًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة